يحتفي العالم في 18 من ديسمبر من كل عام باليوم العالمي للغة العربية، وهي اللغة التي اختزلت حضارة كاملة في نبض حروفها، وبسطت جناحيها على التاريخ فأزهرت بيانا، هي الذاكرة والهوية، المداد الذي لا يجف، والصوت الذي لا يخفت في مسيرة الإنسان نحو المعنى.
ومع التطور الهائل في وسائل الإعلام وانتشار اللهجات العامية في منصات التواصل الاجتماعي والبرامج التلفزيونية والإذاعية، بات السؤال المهم حول تأثير اللهجات المحلية على مكانة اللغة العربية الفصحى، خصوصا في الإعلام الذي يعد نافذة التواصل الثقافي والتوعية.
هل باتت اللهجات العامية تزاحم اللغة العربية الفصحى في الإعلام؟ وهل أثرت على هوية اللغة ومكانتها وانتشارها؟ أم هي الوسيلة الأسهل للتعريف بثقافة الشعوب؟ في هذا الاستطلاع نأخذ رأي الإعلاميين ومقدمي البرامج في سلطنة عمان.
قال محمد الذهلي- إعلامي ومذيع بتلفزيون سلطنة عمان: “عندما يأتي ذكر اللغة العربية الفصحى ومُقارنتها باللهجة العاميّة البيضاء في الإعلام بشتّى وسائله، فإنّ للأمر مسارين مُختفين ومُتلاقيين في نهاية المطاف: المسار العاطفي، والذي من خلاله يكون هدف صانع المحتوى هو الوصول للفئة الأكبر والأرجح من المجتمع، فيدل بمحتواه باللغة والأسلوب البسيطين، ليُعيره البسيط اهتماما قبل الفئات الأخرى، لذا فإنّ الخوف من عدم الاهتمام بالمحتوى من قِبَل المُتلقّي يدفعه لصناعة مُحتوىً عامّي، ذي لغة سهلة وبيضاء ويَعتبرُها المتلقون غير مُتكلّفه”.
وأضاف الذهلي: “المسار الثاني وهو المسار العقلي والذي ينبغي أن يتمسّك به صُنّاع المحتوى العرب هو المحتوى الفصيح، وهو ما يجعل صنّاع المحتوى يتباهون به، ويتنافسون في صياغته، ويتبارزون في اختيار ألفاظه الفصيحة، هو ما سيُقوّم الاعوجاج الذي خلقه التجاهل لِلُغتنا الفصيحة، وكما يُقال: “العمل الفني يكون رزينا ما إذا كان فصيحا.. بالمختصر المفيد؛ هناك تأثير قوي جدا للهجات العامية في صناعة المحتوى الإعلامي، بينما يمكننا خلق التوازن بينهما لإرضاء المُتلقّي وإرضاء التاريخ العربي الأصيل”.
وعند السؤال عن مدى تأثير العامية على لغة التواصل في الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، قال الإعلامي والمذيع في قناة الوصال محمد العلوي: “كيف نتواصل في مجالسنا؟ كيف نتحدث ونتفاعل في حياتنا اليومية؟ ما هو السائد في كل مجتمع من لغة التواصل؟ أطرح هذه التساؤلات لتوضيح أن اللهجة المحلية هي أسلوب حياة يومي وليست دخيلة أو ظاهرة، وظهور مجتمعات التواصل الافتراضية عبر وسائل التواصل المختلفة قد توسع من دائرة التأثير بلهجاتنا، ولكنها لا تُلغي الأساس والمرجع لغتنا العربية، ومن الطبيعي أن تكون اللهجات مؤثرة كونها تمثل هوية للشعوب والمجتمعات، وتعتبر الأسلوب الأسهل والواقعي في التواصل مع الآخرين”.
فيما قالت الإعلامية والمذيعة بإذاعة الشباب مشاعل القاسمية: “من المؤكد أن اللهجات العامية لها تأثير واضح على لغة التواصل في الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، ولا ينبغي أن نقلق من ذلك، لعدة أسباب، أولها أن اللسان العماني في جميع لهجاته مُتشبع بالفصحى، ليس فقط من حيث الألفاظ والمفردات التي إذا ما بحثنا في أصلها وجذرها نكتشف أنها فصحى للغاية، لكن أيضا من حيث قواعد اللغة والنحو، نجد أن تأثيرها كبير على اللهجات العامية، لا سيما إذا ما وضعنا اللهجات المحلية العامية العمانية في مقارنة مع لهجات عامية محلية في دول عربية أخرى، حيث سنجد البون واسعًا، وفي كثير من الأحيان ربما نكتشف لغة أخرى تختلف عن اللغة العربية التي يعرفها جميعنا”
وأضافت القاسمية: “أعتقد أن على المرء أن يتمسك بلهجته المحلية العامية؛ لأنها دليل على قوة تمسكه بهويته الشخصية، واعتزازه وفخره بالبيئة التي نشأ فيها واللهجة التي تعلمها منها، مع الوضع في الاعتبار بالتأكيد أهمية أن تكون اللهجة العامية مناسبة لجميع الفئات، خاصة إذا كان المُتلقي لا يعرف بعض الكلمات المعينة، أو غير مطلع على طريقة حديث محددة تعكس لهجة عامية ما”.
وقالت الإعلامية والمذيعة بتلفزيون سلطنة عمان بيان البلوشية: “لا نبالغ في وصفِ الواقع إن قلنا بأن العامية سيطرت على لغة التواصل في وسائل الإعلام بمختلفِ أشكالها، وخاصة وسائل الإعلام الجديدة. فالشباب يمثلون الجمهور الأكبر -غالبا- في وسائل التواصل الاجتماعي وهو يميل إلى استخدام العامية في تواصله؛ كونها تتسم بسهولةِ الفهم، والقرب من حياتهم اليومية، وهذا ما يعزز التفاعلية بين المستخدمين منهم. والمتابع لما وصل إليه حال اللغةِ العربية في هذه الفضاءات يجد بأن الواقع مؤلم للغاية، وتجاوز الحال إلى تقديم مصطلحات جديدة وكلمات دخيلة من “الهجين اللغوي”، وهذا ما يدفعنا إلى العمل بشكلٍ جاد في إعادة حيوية اللغة العربية الفصحى ليكون حضورها مؤثرا في وسائل الإعلام؛ فهيمنة العامية على لغة التخاطب عززت اعتقادا بأن اللغة العربية لا تواكب الحداثة، وهذه النظرةُ تحتاج إلى تحسين من خلالِ تحديث استخدام الفصحى بأسلوبٍ مبتكر ومعاصر يتناسب مع اهتماماتِ الأجيال الجديدة واحتياجاتهم. وهذا يقودنا إلى محورِ تحقيق التوازن بين العامية والفصحى في وسائل الإعلام، فالسياق الإعلامي يفرض لونا لغويا محددا؛ على صعيد المحتوى الإخباري والأكاديمي فالفصحى أجدر بالاستخدام على نقيضِ المحتوى الترفيهي الذي تعتبر فيه العامية محببة ومفضلة لدى الجمهور”.
وفي سؤالنا فيما إذا كان استخدام العامية في الدراما والأغاني وتقديم البرامج يساعد على ترويج الثقافة أم يؤثر سلبًا على الفصحى، قال محمد الذهلي: “استخدام العامية في الدراما العربية والأغاني الطربية والبرامج المتنوّعة له فوائده من حيث التنوّع اللساني والنُطقي لِلهجات وطننا العربي المتنوعة جدا، وسيكون سببا لنشر الثقافة العربية بين العرب أنفسهم، بينما اللغة العربية الفصحى ستكون الأقوى انتشارا من وجهة نظري لما شهِدناه من عظمة في مسلسلات عربية خالدة كالزير سالم وخالد بن الوليد وغيرها من المسلسلات التي أتقن وأبدع فيها المُنتجون الشاميّون والمصريّون عبر التاريخ الدرامي، كما لا ننسى أن جميع أغاني المسلسلات الكرتونية العالقة في أذهاننا هي مُصاغة بلسان عربي فصيح ولغة فصيحة رائعة، حتى في الأفلام الكرتونية نفسها، الحوارات عربية فصيحة ظلت عالقة في أذهاننا حتى اليوم، لذا فإنّ دخول العامية على هذه الإنتاجات الفنية والدرامية والسينمائية لن يُأثر سلبا على الفصحى في نشر ثقافتنا كعرب؛ بل سيُساعدها على الانتشار أكثر، ما إن تبحّر المُستمع والمُشاهد والمُتلقّي للأعمال العربية في الأعمال الفصيحة المُتاحة، وسيعرفُ ذو اللسان الأعجميّ أن للعرب ألسنة مُتعددة وليس لسانا واحد فقط”.
وقال محمد العلوي: “اللهجات المحلية (هوية وطنية) وما يميزنا كشعوب عربية أننا نلتقي في لغة واحدة ستبقى هي الأساس والمرجع والهوية المشتركة، ولكننا نختلف في لهجاتنا ومصطلحاتنا المحلية وهي ميزة يمكن من خلالها التعريف بثقافاتنا المختلفة وتميزها، فتقديم ثقافتنا الفنية وحياتنا الاجتماعية بلهجاتنا المحلية وتقديمها بطريقة تليق بهوية وقيم مجتمعنا، لا يتقاطع في التأثير على اللغة العربية؛ لأن اللغة العربية هي الأساس والمرجع، واللهجات هي الميزة والتنوع.
فيما أجابت مشاعل القاسمية بقولها: “نعم يساعد الأمر على ترويج الثقافة العُمانية، بل ويسهم في حفظ الموروث وصون التراث. إذ إن اللهجات العامية هي جزء لا يتجزأ من التراث المحلي، ويجب أن نعلم أن تنوع اللهجات المحلية العامية يُبرهن على مدى عراقة وأصالة الشعب. واستخدام اللهجات العامية في الدراما والأغاني يُسهم في ترسيخ هذه اللهجة، بل وتسهيلها على المُتلقي؛ لأنه مع كثرة تداول لهجة محلية معينة، يزداد عدد المتحدثين بها، وتتسع دائرة العارفين بمعانيها ومقاصدها، وهنا في هذا السياق، أودُ أن أشير إلى توجه كان سائدًا في فترة من الفترات على منصات التواصل الاجتماعي، وهي أن يأتي شخصان من منطقتين مختلفتين، ولكلٍ منهما لهجته الخاصة، ثم يبدآن في طرح بعض المفردات بحسب لهجة كلٍ منهما، وكانت مثل هذه الفيديوهات مثيرة للغاية للفضول والشغف لمعرفة معنى كلمة معينة في لهجة محلية.
والحقيقة أن اللهجات العامية تتأثر بعدة عوامل تؤكد طبيعة الثراء الفكري والمعرفي لأهل هذه اللهجة، خصوصًا إذا ما علمنا أن بعض المفردات والتراكيب اللغوية مُشتقة من لهجات ولغات أخرى من خارج البلد، وهذا دليل على تواصل الشعب مع شعوب أخرى، في تمازج حضاري فريد، يؤكد مدى انفتاح الشعب العُماني على الآخر وحرصه على بناء جسور من التعاون مع جميع شعوب العالم، لا سيما القريبة منا جغرافيًا”.
وأشارت بيان البلوشية إلى أنه مع توظيف اللون المناسب في الوعاء المناسب، من خلال استراتيجيات مدروسة تأخذ في الاعتبار طبيعة المحتوى والجمهور المستهدف. على سبيلِ المثال أن استخدام العامية في الدراما والأغاني وتقديمِ، البرامج يعكس هويةً وطنية ثقافية، خاصة وأن الكثير من كلماتِ لهجتنا المحلية ذات جذور عربية واضحة. وعلى المستوى المحلي – من واقع تجربة – أجد أن تلفزيون سلطنة عُمان يتميز في خطابه بالتزامِ المذيعين بالتحدث بالفصحى أو البيضاء إلا إذا كانت طبيعة البرنامج تستوجب اللهجات المحلية كالبرامج الترفيهية والتراثية”. وأكدت البلوشية على أهمية الحفاظ على لغتنا الأم كونه واجب قومي ومسؤولية تشاركية تقع على عاتقِنا جميعا، مسؤولية مجتمعية بين الأسرة والمدرسة والمؤسسات التعليمية والثقافية ووسائلِ الإعلام المختلفة
الفصحى والعامية في الإعلام.. توازن أم تنافس؟..استطلاع لرأي الإعلاميين ومقدمي البرامج في سلطنة عمان
4